وجهة نظر حول نشؤ وتحول ظاهرة الفساد؟
الحلقة الأولى:
إن الظروف التي مر بها العراق عموماً وكوردستان خصوصاً كانت السبب وراء الكثير الكثير من المشاكل الأقتصادية والأجتماعية والسبب وراء تغيّر كبير في النظرة الفكرية السوية الى الأمور وتغيّر النظرة الى مضمون ومقاصد ومعاني كلمات عديدة نذكر منها هنا على سبيل المثال لا الحصر معاني كلمة الأحترام والكرامة والتقدير وإحترام الذات وإحترام الكلمة والوعد والعهد والتعهد...الخ
إن كثيرين منّا ربما
يتذكرون أو ورد الى مسامعهم قبل زمن ليس ببعيد بأنه كانت للكلمة والتعهد والوعد و(الوعيد)
إعتباره وتقديره فقد كان الفرد مسؤولاً ومقيداً مع نفسه عما تصدر منه من وعود أو
عهود وكانت فضيحة الفضائح أن ينكل عما تعهد به وكانت أغلب الأمور تسوى شفاهاً بالأعتماد
على إتفاق بين شخصين على أمر ما، يشهد عليه شهود أو ربما بلا شهود فقد كان الرجل يلتزم
بكلمته حفاظاً على رجولته شرفه وكرامته وإحترامه أمام نده الرجل الذي تعاقد معه أو
تعهد له، حيث كانت الحياة بسيطة تتمثل بساطتها ببساطة تعامل الناس مع بعضها
مستندين أساساً على محافظة الرجل على رجولته وكرامته وشرفه وسائر القيم الأخلاقية
والأجتماعية التي كانت بحق محرك ومنظم المجتمع، لقد كان الأنسان عزيزاً على نفسه،
ويعز عليه أن يخلف كلمته.
لقد أفرزت هذه
المعادلة البسيطة جداً والحكيمة جداً معادلة إجتماعية وحياتية بسيطة جداً نشأ
وترعرع عليها شعب بأصوله عريقة يكفيه أنه صاحب ملحمة ((مه م وزين))..........
إن هذه البساطة وجوانبها
البسيطة التي نحن بصددها والتي عاشها الناس تعود الى فترة قريبة ربما لاتتجاوز الخمسون
عاماً الماضية، وكلنا نتذكرها، وهي في الحقيقة تمتد الى آلاف السنوات الماضية.
إلا أنه وبمرور الزمن
والتطور السريع في أسلوب الحياة على كافة الأصعدة أو بمعنى آخر بعد النهج الغريب
في أسلوب حياتنا والتضخم غير الحقيقي والواقعي لمتطلبات وحاجات حياتنا اليومية الناجمة
بالتأكيد عن الحروب وعدم الأستقرار السياسي والأجتماعي والأقتصادي التي مر بها
العراق والتي سببت تذبذبات وتحولات وهجرات من القرية الى المدنية أدت الى إختلاطات
وفوضى وعدم إستقرار وويلات عانها الشعب المغلوب على أمره.
وبدورها أدت هذه الى
حدوث تطورسايكولوجي أو بمعنى أصح تحول سلبي عميق في شخصية ونفسية وكيان وعواطف
ومشاعر وإطار وطريقة عيش الأنسان العراقي بصورة قلبت معها الأمور رأساً على عقب
وغيرت وعكست الكثير من المفاهيم الصحيحة العريقة التي ورثها وعهدها رأساً على عقب.
مما نتج عن ذلك تحول القيم
والمعايير والظوابط المعتمدة سابقاً بحيث ما عادت قادرة لدى الكثيرين على الوقوف
ومواجهة التغيير السلبي الرجعي السريع. فلم تتمكن هذه القيم العريقة الموروثة منذ
القدم والتي ترعرعت عليها أجيال وأجيال، من الصمود أمام التغيرات السريعة
والمتلاحقة إلا لدى البعض. وكأن موجات الموديلات المتجددة سريعاً في الملبس ومظاهر
الحياة المادية قد شملت القيم والأخلاق والأعتبارات بالتالي لم يعد للعهود
والمواثيق والوعد والكلام الذي يصدر عن الفرد ذلك الأعتبار والأحترام والألتزام الذي
عهده أسلافنا وأصبحت حالات الخرق والنكول بها أكثر بكثير من حالات إحترامها، مما أدى
الى هروب وعزوف أصحاب الأخلاق وأبناء العوائل المرموقة الكريمة والمحترمة والعريقة
عن واجهة ومعترك الحياة... لتحل محلها بعضاً من أرذل خلق الله وبعض العوائل التي
كانت الى قبل سنوات في الدرك الأسفل من الإنحطاط والرذيلة (وما زالوا) وربما الزمن
المتقلب كفيل بكشف حقيقتهم وزورهم ...
وهذا ما سبب إنهيار
الثقة بين الناس شيئاً فشيئاً ولم يعد بامكان الشخص أن يأتمن على عهد ووعد أخيه وصديقه
وجاره وقريبه فما بالك بالغريب...
وفجأة لم يعد للوعد
أو العهد قيمة أو إعتبار إلا ما ندر ولم يعد حياءً أن ينكث الشخص بما تعهد به ولم
يعد المجتمع ينبذه أو يجافيه أو يطرده أو ينفيه كما كان سابقاً بل على العكس بات
هذا الشخص من وجهة نظر البعض محبوباً يوصف بالذكاء والشطارة والقدرة على التنصل
والأحتيال والمماطلة وأصبح مدار إعجاب الناس الخفيفة ولم تعد الناس تتجنبه كما كان
بل على العكس تماماً يكثر أصدقاءه وربما يحاول الكثيرين مصادقته وملازمته علهم
يتعلمون شيئاَ من فنونه في التنصل والنكث بالوعود وتحقير ذاته ونفسه بنفسه.
إننا أمام حالة وواقع
إجتماعي غريب وخطير يرثى له حيث إنقلبت الأمور على رأسها فقد عالى أغلب ما هو سافل
وداني ومنحط وأبعد كل ما هو جيد وحسن. وتداخلت في العلاقات الأجتماعية أغلب ما هو
سيء وخرج منها أغلب ما هو جيد. ولم يعد هنالك ثوابت إجتماعية تجعل الحياة مستقرة
الى حد تستطيع معه الفئات الأجتماعية المسحوقة والفقيرة من العيش بكرامة وعفاف ودخل
الواقع الأجتماعي تجاذبات وتفاعلات ومصالح مادية صرفة جعلت من الفساد والمفسيدين وتحقير
النفس هي الحالة العامة والغالبة أما الكرامة والعفة والغيرة وإحترام النفس والغير
وتقدرير المشاعر الأنسانية أصبحت حالة عتيقة عقيمة غريبة عن المجتمع وإستثناء على
الحالة العامة. فعند مراجعة أحد الأشخاص من الطبقة المسحوقة الفقيرة لبعض من الدوائرة
الحكومية تجد أن موضوعه يعلق ويتم تأخيره في قاعات الأنتظار والأستقبال وغرف
السكرتيرات الجميلات الرشيقات الجالسات أمام أجهزة كومبيوتر متطورة جداً لأغراض
ألعاب الكومبيوتر وفي النهاية ينتهي دوام المدير أو فجاة يترك المدير ساعات الدوام
الرسمي المخصصة لخدمة الناس، لغرض الأجتماع في دائرة أخرى ويضطر المواطن البائس المسحوق
والمغلوب على أمره بالعودة الى داره (إن كان له دار) خالي اليدين . في حين تجد أن قامات
بعض المدارء تتهاوى من شدة إنحنائها أو إنحدارها وإنحطاطها أمام شخص من طبقات أخرى
ولاتكاد إبتسامات التزلف ولاكلمات الثناء والمديح المنمقة تفارق لسانه.
وتأسيساً على ما آلت
إليه الأمور من إنهيار في الثقة وهدر في احترام المبادئ القيمة العظيمة والموروث
الأخلاقي العظيم والواقع الأليم والذي أوردت القليل منه في السطور السابقة برزت
الى الوجود ظاهرة تسمى بالفساد.
فبإنهيار الثقة بين
الناس جراء إنحطاط القيم وأجهزة الرقابة والقهر الأجتماعية بسبب التضخم الأقتصادي
الناجم عن الظروف السياسية التي مر بها العراق كل هذه الأمور أفرزت ظاهرة الفساد وقد
تسللت هذه الآفة الى العديد من أجهزة الدولة المختلفة وهو الأخطر ولابد من معجزة
وإلا إحترق الأخضر مع اليابس.
المحامي
رخشان رشيد آميدي
ملاحظة:
للكاتب مقالات عديدة في مجلة متين الغراء في سنة
1994و1995
تحت أسم حركي ( زانكو آميدي )